فصل: تفسير الآيات (56- 57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (39- 40):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [39- 40].
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} أي: فرغ من الحساب وفصل بين أهل الجنة والنار، وصار كلٌّ إلى ما صار إليه مخلداً فيه: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} أي: وهم اليوم مستغرقون في غفلة عما يفعل بهم في الآخرة: {وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي: لا يصدقون به اليوم وسيعاينونه. ثم أمر تعالى رسوله أن يتلو عليهم نبأ إبراهيم لكونهم ينتمون إليه فيعتبروا في توحيده الخالص، فقال سبحانه:

.تفسير الآيات (41- 42):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [41- 42].
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً} بليغ التصديق بما يجب لله من الوحدانية والتنزيه: {نَبِيّاً إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} أي: مُتَلَطِّفاً في دعوته إلى التوحيد ونهيه عن عبادة الأصنام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} أي: فلا يدفع ضرّاً ولا يجلب نفعاً.
قال أبو السعود: ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج، وأقوم سبيل. واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق جميل. لئلا يركب متن المكابرة والعناد. ولا ينكب، بالكلية، عن محجة الرشاد. حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل، من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه، فضلاً عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم. مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام، والإنعام العام. الخالق الرازق المحيي المميت المثيب المعاقب. ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل، لداعية صحيحة وغرض صحيح. والشيء لو كان حيّاً مميزاً سميعاً بصيراً، قادراً على النفع والضر، مطيقاً بإيصال الخير والشر، لكن كان ممكناً، لاستنكف العقل السليم عن عبادته. وإن كان أشرف الخلائق. لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبة. فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر، ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر؟.

.تفسير الآية رقم (43):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} [43].
{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} أي: وحق القاصر اتباع الإنسان الكامل: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} أي: معتدلاً لا إفراط فيه بعبادة من لا يستحق، ولا تفريط بترك عبادة من يستحق، وكذا في باب الأخلاق والأعمال. قال المهايميّ: أي: وإن كان حق الابن اتباع الأب في العرف، لكنه باطل. لأن الحق اتباع الصواب.
قال الزمخشريّ: ثَنَّى عليه السلام بدعوته إلى الحق مترفقاً به متلطفاً. فلم يسِمْ أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق. ولكنه قال: إن معي طائفة من العلم وشيئاً منه ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السويّ. فلا تستنكف. وهب أني وإياك في مسير، وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه.

.تفسير الآية رقم (44):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [44].
{يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً}. ثلّث عليه السلام بتثبيطه ونهيه عما كان عليه، بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل، ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة، مستجلب لضرر عظيم، فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان. لما أنه الآمر به والمسوّل له، وقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ} إلخ تعليل لموجب النهي وتأكيد له، ببيان أنه مستعص على ربك الذي أنعم عليك بفنون النعم. ولا ريب في أن المطيع للعاصي عاص. والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير. والاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته، لأنه ملاكها. والتعرض لعنوان الرحمانية، لإظهار كمال شناعة عصيانه. أفاده أبو السعود.

.تفسير الآية رقم (45):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} [45].
{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} لكونك عصيته وواليت عدوّه، فيقطع رحمته عنك، كما قطعها عن الشيطان: {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} أي: مقارناً له ومشاركاً معه في عذابه.
قال الزمخشريّ: ربَّعَ عليه السلام بتخويفه سوء العاقبة، وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال. ولم يخل ذلك من حسن الأدب، حيث لم يصرّح بأن العقاب لا حق له، وأن العذاب لاصق به، ولكنه قال: {أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ} فذكر الخوف والمس ونكّر العذاب. وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه، أكبر من العذاب. وصدّر كل نصيحة من النصائح الأربعة بقوله: {يَا أَبَتِ} توسلاً إليه واستعطافاً. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (46):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [46].
{قَالَ} أي: أبوه مصرّاً على عناده لفرط غلوّه في الضلال: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} أي: أمعرض ومنصرف أنت عنها. وإنما قدم الخبر على المبتدأ، لأنه كان أهم عنده. وصدّره بالهمزة لإنكار نفس الرغبة، على ضرب من التعجب. كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل، فضلاً عن ترغيب الغير عنها. وفيه تسلية للرسول صلوات الله عليه، عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه.
وقوله: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ} تهديد متناه. أي: لئن لم تنته عن القول فيها، وعن نصحك، لأرجمنك بالحجارة: {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} أي: تباعد عني زماناً طويلاً.

.تفسير الآية رقم (47):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [47].
{قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} أي: مبالغاً في اللطف بي. وفي جوابه بقوله عليه السلام: {سَلامٌ عَلَيْكَ} مقابلة السيئة بالحسنة. كما قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان: 63]، أي: لا أصيبك بمكروه بعدُ. ولكن سأدعو ربي أن يغفر لك. كما قال: {وَاغْفِرْ لِأَبِي} [الشعراء: 86]، قال الزمخشري: وفي الآية دليل على جواز متاركة المنصوح، والحال هذه. ويجوز أن يكون دعا له بالسلامة، استمالة له. ألا ترى أنه وعده بالاستغفار؟
وفي الإكليل: استدل بعضهم بالآية على جواز ابتداء الكافر بالسلام.
وقال ابن كثير: قد استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام. وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق في قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41]. وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام. وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك. حتى أنزل الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4]، يعني إلا في هذا القول، فلا تتأسّوا به. ثم بيّن تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه، فقال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}، إلى قوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 113- 114]، وقوله:

.تفسير الآية رقم (48):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} [48].
{وَأَعْتَزِلُكُمْ} أي: أتباعد عنك وعن قومك بالهجرة: {وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: من أصنامكم.
قال الزمخشري: المراد بالدعاء العبادة، لأنه منها ومن وسائطها. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة». ويدل عليه قوله تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [49]، {وَأَدْعُو رَبِّي} أي: أعبده وحده: {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} أي: خائباً ضائع السعي. وفيه تعريض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم، مع التواضع لله بكلمة: {عَسَى}، وما فيه من هضم النفس ومراعاة حسن الأدب، والتنبيه على أن الإجابة والإثابة بطريق التفضل منه تعالى.

.تفسير الآية رقم (49):

القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} [49].
{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وذلك بالمهاجرة إلى الشام: {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً} أي: جعلنا له بنين وحفدة، أنبياء قرّت عينه بهم في حياته بدل من فارقهم من أقربائه الكفرة الفجرة. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (50):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} [50].
{وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا} أي: ما عُرف فيهم من النبوَّة والذرية وسعة الرزق وحوزة الأرض المقدسة: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} أي: ثناءً حسناً. عبّر باللسان عما يوجد باللسان. كما عبّر باليد عما يطلق باليد وهي العطية. وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلوّ، للدلالة على أنهم أحقاء بما يثني عليهم، وأن مجاهدتهم لا تخفى.

.تفسير الآيات (51- 52):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [51- 52].
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً} بكسر اللام أي: أخلص العبادة عن الشرك وأسلم وجهه لله. وقرئ بفتحه. أي: أخلصه الله، أي: اصطفاه، كما قال: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف: 144]، {وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} أي: من جانبه الأيمن من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة، فرآها تلوح فقصدها فوجدها ثمة. فنودي عندها: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} أي: مناجياً، أي: كليما. إذ كلمناه بلا واسطة.

.تفسير الآية رقم (53):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} [53].
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} ليشد أزره في أداء الرسالة.

.تفسير الآيات (54- 55):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [54- 55].
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ} وهو ابن إبراهيم عليهما السلام. وإنما فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه، لإبراز كمال الاعتناء بأمره، بإيراده مستقلاًّ. وقوله: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} تعليل للأمر. وإيراده عليه السلام بهذا الوصف، وإن شاركه فيه بقية الأنبياء، تشريفاً له وإكراماً. ولأنه المشهور من خصاله. وناهيك أنه وعد من نفسه الصبر على الذبح، فوفىّ به حيث قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، وهذا أعظم ما يتصور فيه. وفيه تنبيه بعظم هذه الخلة. ولذا كان ضدها نفاقاً، كما صرّحت به الأخبار {وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} أي: كان يبدأ أهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم. ولأنهم أولى من سائر الناس: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه: 132]، {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6]، ألا ترى أنهم أحق بالتصدق عليهم؟ فالإحسان الدينيّ أولى. أفاده الزمخشري {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} أي: لاتصافه بالنعوت الجليلة التي منها ما ذكر. وقوله تعالى:

.تفسير الآيات (56- 57):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [56- 57].
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّا} هو شرف النبوّة والزلفى عند الله تعالى. فالعلوّ معنويّ. أو رفعه بجسده حيّاً إلى السماء. قال الشهاب: قيل: والثاني أقرب لأن الرفعة المقترنة بالمكان لا تكون معنوية، وفيه نظر لأنه ورد مثله بل ما هو أظهر منه، كقوله:
وكن في مَكانٍ إذَا مَا سَقَطتَ ** تَقُومُ وَرِجلاَكَ في عَافيَة

انتهى. ومما يؤيد الثاني ما روي في الصحيحين عن أنس في حديث المعراج، أنه صلوات الله عليه رأى إدريس في السماء الرابعة. وإدريس هو إلياس الآتي ذكره في سورة الصافات. ويسمى في التوراة إيليا. ولرفعه إلى السماء فيها نبأ عجيب، قد يكون التنزيل الكريم في هذه الآية أشار إليه والله أعلم. وقوله تعالى: